
بقلم أحمد الكحلاوي
لقد كان يوم الخميس 26 جانفي 1978 يوما اسودا حسب توصيف وسائل الاعلام المحلية و العربية و الدولية , يوم اضراب عام و “نكبة وطنية” حيث امرت فيه الحكومة الجيش و قوات الامن بمواجهة المضربين و المتظاهرين بكل الوسائل بما في ذلك اطلاق النار علي التونسيين الذين نزلوا الى شوارع العاصمة و في المدن و الارياف حيث تم استهدافهم بوابل من الرصاص الحي ما ادى الى سقوط مئات الشهداء والمصابين،واعتقال مئات النقابيين بمن فيهم طلاب الجامعة التونسية والزج بالكثير منهم في المعتقلات والسجون. لقد كان قرار الاضراب العام الذي اضطرت هياكل الاتحاد القيادية (هيئة ادارية ومجلس وطني) الى اتخاذه دفاعا عن استقلالية الاتحاد وحماية للحق النقابي ودفاعا عن المطالب المشروعة للغالين وردا على تصريحات رئيس الحكومة التي هدد فيها “بنصب المشانق للنقابيين في باب سويقة” وغير ذلك من التهديدات الاخرى واضافة الى ما تقدم مطالبة الحكومة بإصلاح الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية. مواجهات دامية جندت لمواجهتها قيادة الحزب الحاكم أنذاك ميليشياتها التي حملت العصي والهراوات وارتكبت عمليات قمع وارهاب ضد المضربين وضد المتظاهرين، ومن جهتها داهمت قوات الامن الخاصة مقرات الاتحاد المركزية و في بعض الجهات واختصت مقره المركزي الكائن ببـطحاء محمد علي الحامي بدبابة عسكرية حملت…يا للغبن…اسم الزعيم الوطني و النقابي “فرحات حشاد” بهدف محاصرة عشرات المناضلين النقابيين و النقابيات المعتصمين داخله على امتداد عدة ايام انتهت بتنفيذ الاضراب العام يوم الخميس 26 جانفي واعـتقال مـئات النقابيين الذين كانوا محاصرين داخل مقرات الاتحاد في العاصمة و في الجهات و زجت بهم في دهاليز وزارة الداخلية وفي مختلف مراكز الامن الجهوية وانطلقت على الفور عمليات التحقيق التي تخللها انتهاكات ادت الى استشهاد عدد من النقابيين (من بينهم “حسين الكوكي” النقابي المنتمي لنقابة البنوك بسوسة، والطالب بالجامعة التونسية “حمادي زلوز” الذي توفي بسبب التعذيب لمشاركته في توزيع جريدة الشعب السرية التي أصدرتها “لجان المبادرة الوطنية” (التابعة لتنظيم الشعـلة التونسي) و غيرهما من الشهداء الاخرين…
لقد تميز النقابيون الموقوفون داخل غرف وزارة الداخلية بمعـنويات عالية فكانوا في اثناء عمليات التحقيق يطلقون من حين لأخر بعض الشعارات المنددة بعمليات القمع والتعذيب وبعض الاهازيج الحماسية التي تعبر عن الافتخار للانتماء للاتحاد الاعتزاز بمواقفه الوطنية والدفاع عن مناضليه الوطنيين واشتهر من بينها شعار حماسي يردد باللهجة الدارجة جاء فيه “يا عـذاب الحال ، يا بابا و أمي ، يا عـذاب الحال / عندي النقابة خير لي من المال” تعبيرا عن نظافة اليد و عدم الوقوع في الارتزاق واعتزازا بالعمق الوطني للنضال النقابي و رفض انحراف حكومات الاستثمار الاجنبي المرتكز على قوانين افريل 72و74 و غيرها من القوانين الاخرى التي كان المستثمرون الاجانب يمتصون اعتمادا عليها عرق الاف العمال و يراكمون بواسطتها الاموال الطائلة التي كانوا يكدسونها دعما لاقتصاد دولهم في اوروبا دون ان ينتفع الاقتصاد التونسي باية قيمة مضافة مما ينتجونه كان يمكم ان يستفيد منها بلدنا و يقوى اقتصادنا الوطني لو اتسمت سياسات نظام الحكم بالوطنية… لقد تغيرت احوال النقابيين المعتقلين بعد عمليات الفرز التي انتجتها تحقيقات الداخلية والتي انتهت الى الابقاء على ثلاثين (30) معتقلا من جملة مئات النقابيين كلهم اعضاء بالمكتب التنفيذي للاتحاد و بهيئتة الادارية الوطنية احيلوا جميعهم على انظار “محكمة أمن الدولة “التي ترئسها احد القضاة القدامى وقد تطوع للدفاع عـنا نخبة من اشهر ما انجبت المحاماة التونسية العريقة اقتدارا مهنيا والتزاما وطنيا و اخلاصا لشهداء الاتحاد ومن بينهم الاساتذة عبد الرحمان الهيلة ، منصور الشفي ، محمد شقرون، محمد باللونة و غيرهم ، وقد ابلى النقابيون المحالون على المحكمة و المحامون البلاء الحسن بتقديم مرافعات تميزت كلها بالدفاع عن الاتحاد العام التونسي للشغل وبما يؤديه من نضال وطني و دفاع شرعي عن صالح الشغالين و مصالح الشعب التونسي وعلى اثر ذلك اعلن المحامون وقف مرافعاتهم وانسحابهم رفضا لاحالة القادة النقابيين على محكمة امن الدولة اعتبارا لطبيعتها الامنية فقامت النيابة العمومية بتسخير من اختارتهم محامين عنا دون موافقتنا ما دفعنا لرفضهم بصفتهم مسخرين من طرف الدولة التي اعتقلتنا و و احالتنا على محاكمة غير شرعية حولتها الى مسرحية مرفوضة و رغم ذلك تواصلت المهزلة في مرافعة “نائب الحق العام” التي اختتمها بـطلب ادانتنا و اصدار حكم “الاعدام على هؤلاء االـ30 نقابيا المحالين على انظار محكمته “ما أثار غضب كل من كان في قاعة المحكمة من متهمين ومحامين وصحافيين وممثلين لحقوق الانسان…
لقد كانت محاكمة احيت جروح التونسيين وذكرتم مرة أخرى بواجب النضال من اجل اقامة نظام وطني تونسي يقوم على سيادة الشعب ولا مكان فيه لأي تدخل أجنبي أو من طرف العملاء. اختم هذه المقالة بالتاكيد على ان الاتحاد سيبقى معلما وطنيا و قلعة شامخة في تاريخ تونس والعرب معمدا بدماء الشهداء و على راسهم الشهيد فرحات حشاد اتحادا متمتعا بحصانة ضد أي اختراق داخلي او اجنبي مهما كان الثمن ./.
فلا عاش في تونس من خانها … ولا عاش من ليس من جندها نعيش ونحيا على عهدها …….. حياة الكرام وموت العظام
** أحد الفاعلين الرئيسيين في ملحمة 26-01-1978 وعضو سابق في الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد